تصادف هذه الأيام ذكرى إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وهو الحدث الذي كان ولا يزال مثار النقاش والجدل بين الكثير من أبناء الشعوب العربية وليس في أوساط العراقيين فحسب، وعلى الرغم من مضي ما يتجاوز العقد والنصف من الزمان على هذا الحادث، إلا أن النقاش لا يزال محتدماً ما بين مؤيد لصدام، وما بين معترض ساخط ناقم منه، سعيد بما حدث له وبأركان نظامه من عقوبات انتهت بهم إلى الإعدام.
لعله من الصعوبة بمكان التوصل لرأي محايد موضوعي عن حقبة صدام حسين، وذلك لأسباب عديدة أهمها تعدد الزوايا التي يمكن من خلالها تقييم تلك الحقبة، ولعل التفاوت العمري بين الأجيال يشي لنا ببعض العوامل الكامنة وراء مثل هذه الاختلافات، فكثير من الأجيال الأكبر سناً تترحم على حقبة صدام حسين، ممن عايشوا الفوضى والفساد والطائفية في أقبح صورها بعد التخلص من نظامه، وكانت بالنسبة لهم أقسى وأسوأ كثيراً من القمع الذي شهدوه إبان حقبة صدام حسين.
أما الأجيال الأصغر سناً ممن يعتبرون صدام حسين ليس أكثر من تاريخ لم يعيشوه فغالبيتهم من الناقمين عليه، فهم لم يسمعوا إلا عن عيوبه ومثالبه، نزواته العسكرية وتسلطه وصراعاته مع الدول الأخرى، ومع ما يعايشونه من فساد وفوضى واستقطاب لا يشعرون بأي حنين لأيامه، ولا يترحمون عليه، فهم يعتبرونه السبب المباشر لضياع حاضرهم ومستقبلهم، والمتسبب الأول والأخير في هدر مواردهم وتحويل أراضيهم لحلبة صراع دولي وحروب بالوكالة.
من المؤكد أنه ليس كل عراقي مستقطباً ما بين حب صدام حسين أو كرهه والنقمة عليه هو ونظامه، ولكن تقسيم الآراء لهاتين الفئتين يسهل من تحليل الموقف، والذي يطرح بدوره تساؤلاً واقعياً شغل الرأي العام العالمي ولا يزال، وهو هل يعتبر غزو العراق خطأً أم صواباً؟ وفي اعتقادي أن كلمات الرئيس الأمريكي ترامب في أحد خطاباته المتلفزة ترد على هذا السؤال بإيجاز وتختزل لنا وضع العراق في جملة صغيرة، فقد قال ترامب: «كان صدام حسين شريراً، بل وشريراً جداً، ولكن أتعلمون يا سادة أن الشيء الجيد في صدام أنه قضى على الإرهابيين، فلم يكن لهم موطئ قدم في عراق صدام».
لاشك لدينا أنه بخلاف القلة الشديدة التي انتفعت بفساد وتسلط صدام، فإن غالبية الشعب العراقي كانت تعاني الأمرين في ظل نظام حكمه، فما كان أسهل من الزج بالمواطن العراقي في خضم حروب لا طائل منها إلا إذكاء نرجسية الرئيس وإشباع شهوة أطماعه، وما كان أسهل قتلهم حتى لو اضطر النظام لاستخدام الأسلحة الكيماوية غير المصرح باستخدامها دولياً لإبادة قرى بأكملها، لقد كان الفساد والمحسوبية والقمع والتنكيل أدوات النظام العراقي الذي كان يئن شعبه من وطأة جنونه، ولكن الكثير من أبناء ذلك الجيل نفسه هو من يحن لأيام صدام ويتوق لعودتها، ويحتاج الأمر بالتأكيد للاستعانة بتحليل نفسي لشرح الأمر.
في مقال سابق لي بعنوان «متلازمة ستوكهولم» أوضحت هذا الجانب النفسي، فترحم بعض العراقيين على أيام صدام يشبه تعلق الرهائن بسجانيهم، على النحو الذي يجعلهم من أشد المدافعين عنهم والمتعاطفين معهم، ولا سيما لو أن هؤلاء الرهائن عانوا من أوضاع أسوأ من تلك التي كانوا يعانون منها وقتما كانوا رهائن، وهو ما حدث بالفعل مع هؤلاء العراقيين، فالفساد والفوضى والطائفية والشغب وظهور داعش وتدخل إيران تم تحت ستار ديموقراطية زائفة، وهو ما استدعى من ذاكرتهم أيام الاستقرار الأمني -على الأقل- التي كانوا ينعمون بها خلال فترة حكم صدام البائدة، ولقد تابعنا جميعاً اندلاع التظاهرات العراقية لأسابيع، ولسان حالهم يردد مقولة الشاعر «دعوت على عمرو فمات فسرني، فعاشرت أقواماً بكيت على عمرو».
أذكر أنني كنت في زيارة للندن منذ قرابة العام تقريباً وكنت أستخدم تطبيق «أوبر» للتنقل في مدينة الضباب، وتصادف ذات مرة أن استخدمت هذا التطبيق مع سائق من أصل عراقي كردي، فجاذبته أطراف الحديث كعادتي وسألته: كيف تجد أحوال العراق الآن؟ نظر لي السائق نظرة من يحمل عبئاً جاثماً على صدره يريد أن يبوح به، وقال: أتدري؟ لقد أعدم صدام الكثير من أقربائي وأبناء عشيرتي، غير أنه لم تضطرني الظروف أبداً لأن أترك بلدي وأعيش في المنفى، هل تعلم أنني لم أفكر في مغادرة العراق إلا بعد سقوط نظام صدام، نعم.. لقد كان المفسدون في عهده بالعشرات، لكن من الصعوبة بمكان الآن أن نحصي عددهم.
من المؤكد أن بعض المسؤولين العراقيين يعلم تماماً أن الشارع العراقي كان على صواب عندما انتفض، وأن الفساد قد استشرى في جسد العراق الجريح، ومن المؤكد أن إيران تعلم بذلك أيضاً، لكنها بدورها تحتاج إلى هؤلاء المفسدين لأنهم سبيلها للتغلغل في العراق، وما الهجوم الأخير على السفارة الأمريكية في العراق إلا مؤشر صريح يدل على أن إيران تريد أن تفرغ الولايات المتحدة شحنة غضبها ضد الشارع العراقي بدلاً من أن تفرغه ضد الشارع الإيراني، وفي سبيل ذلك لا بأس من التضحية برؤوس بعض الساسة العراقيين، وهو ما عبر عنه الرئيس ترامب فعلاً حين أعرب عن غضبه من الحكومة العراقية حينما صرح بحدة بأنه كان يتوقع منها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية سفارة بلده في العراق.
لا يساورنا جميعاً أدنى شك في أن الأمة العراقية أمة عظيمة، تاريخها عريق طالما تفاخر به العالم الإسلامي، فبغداد كانت عاصمة الخلافة العباسية التي استمرت لقرون، ونحن على ثقة من أن العراق قادر على تجاوز محنته بأيدي أبنائه، فلا يوجد رئيس جاثم على صدره ولا نظام يكبل أطرافه، ولكن تنقصه الكثير من المقومات التي يتعين عليه اكتسابها ليتمكن من بناء وطنه بنفسه، لقد أصبح العراق الآن حراً من صدام، ولكن لا يزال يتعين عليه المضي قدماً في ترسيخ تجربته الجديدة رغم الكثير من نواقصها وعيوبها، ومن المؤكد أن الاستقرار لن يتحقق إلا بالتحرر من نفوذ الجار الشرقي ثقيل الظل، والذي يمثل العقبة الثانية (بعد صدام) التي تعترض طريق العراقيين، ويتعين عليهم إزاحتها بكل جهد وصبر ومثابرة ليعود لهم وطنهم حراً مستقلاً مستوعباً جميع أطياف الشعب كما يفترض أن يكون.
لعله من الصعوبة بمكان التوصل لرأي محايد موضوعي عن حقبة صدام حسين، وذلك لأسباب عديدة أهمها تعدد الزوايا التي يمكن من خلالها تقييم تلك الحقبة، ولعل التفاوت العمري بين الأجيال يشي لنا ببعض العوامل الكامنة وراء مثل هذه الاختلافات، فكثير من الأجيال الأكبر سناً تترحم على حقبة صدام حسين، ممن عايشوا الفوضى والفساد والطائفية في أقبح صورها بعد التخلص من نظامه، وكانت بالنسبة لهم أقسى وأسوأ كثيراً من القمع الذي شهدوه إبان حقبة صدام حسين.
أما الأجيال الأصغر سناً ممن يعتبرون صدام حسين ليس أكثر من تاريخ لم يعيشوه فغالبيتهم من الناقمين عليه، فهم لم يسمعوا إلا عن عيوبه ومثالبه، نزواته العسكرية وتسلطه وصراعاته مع الدول الأخرى، ومع ما يعايشونه من فساد وفوضى واستقطاب لا يشعرون بأي حنين لأيامه، ولا يترحمون عليه، فهم يعتبرونه السبب المباشر لضياع حاضرهم ومستقبلهم، والمتسبب الأول والأخير في هدر مواردهم وتحويل أراضيهم لحلبة صراع دولي وحروب بالوكالة.
من المؤكد أنه ليس كل عراقي مستقطباً ما بين حب صدام حسين أو كرهه والنقمة عليه هو ونظامه، ولكن تقسيم الآراء لهاتين الفئتين يسهل من تحليل الموقف، والذي يطرح بدوره تساؤلاً واقعياً شغل الرأي العام العالمي ولا يزال، وهو هل يعتبر غزو العراق خطأً أم صواباً؟ وفي اعتقادي أن كلمات الرئيس الأمريكي ترامب في أحد خطاباته المتلفزة ترد على هذا السؤال بإيجاز وتختزل لنا وضع العراق في جملة صغيرة، فقد قال ترامب: «كان صدام حسين شريراً، بل وشريراً جداً، ولكن أتعلمون يا سادة أن الشيء الجيد في صدام أنه قضى على الإرهابيين، فلم يكن لهم موطئ قدم في عراق صدام».
لاشك لدينا أنه بخلاف القلة الشديدة التي انتفعت بفساد وتسلط صدام، فإن غالبية الشعب العراقي كانت تعاني الأمرين في ظل نظام حكمه، فما كان أسهل من الزج بالمواطن العراقي في خضم حروب لا طائل منها إلا إذكاء نرجسية الرئيس وإشباع شهوة أطماعه، وما كان أسهل قتلهم حتى لو اضطر النظام لاستخدام الأسلحة الكيماوية غير المصرح باستخدامها دولياً لإبادة قرى بأكملها، لقد كان الفساد والمحسوبية والقمع والتنكيل أدوات النظام العراقي الذي كان يئن شعبه من وطأة جنونه، ولكن الكثير من أبناء ذلك الجيل نفسه هو من يحن لأيام صدام ويتوق لعودتها، ويحتاج الأمر بالتأكيد للاستعانة بتحليل نفسي لشرح الأمر.
في مقال سابق لي بعنوان «متلازمة ستوكهولم» أوضحت هذا الجانب النفسي، فترحم بعض العراقيين على أيام صدام يشبه تعلق الرهائن بسجانيهم، على النحو الذي يجعلهم من أشد المدافعين عنهم والمتعاطفين معهم، ولا سيما لو أن هؤلاء الرهائن عانوا من أوضاع أسوأ من تلك التي كانوا يعانون منها وقتما كانوا رهائن، وهو ما حدث بالفعل مع هؤلاء العراقيين، فالفساد والفوضى والطائفية والشغب وظهور داعش وتدخل إيران تم تحت ستار ديموقراطية زائفة، وهو ما استدعى من ذاكرتهم أيام الاستقرار الأمني -على الأقل- التي كانوا ينعمون بها خلال فترة حكم صدام البائدة، ولقد تابعنا جميعاً اندلاع التظاهرات العراقية لأسابيع، ولسان حالهم يردد مقولة الشاعر «دعوت على عمرو فمات فسرني، فعاشرت أقواماً بكيت على عمرو».
أذكر أنني كنت في زيارة للندن منذ قرابة العام تقريباً وكنت أستخدم تطبيق «أوبر» للتنقل في مدينة الضباب، وتصادف ذات مرة أن استخدمت هذا التطبيق مع سائق من أصل عراقي كردي، فجاذبته أطراف الحديث كعادتي وسألته: كيف تجد أحوال العراق الآن؟ نظر لي السائق نظرة من يحمل عبئاً جاثماً على صدره يريد أن يبوح به، وقال: أتدري؟ لقد أعدم صدام الكثير من أقربائي وأبناء عشيرتي، غير أنه لم تضطرني الظروف أبداً لأن أترك بلدي وأعيش في المنفى، هل تعلم أنني لم أفكر في مغادرة العراق إلا بعد سقوط نظام صدام، نعم.. لقد كان المفسدون في عهده بالعشرات، لكن من الصعوبة بمكان الآن أن نحصي عددهم.
من المؤكد أن بعض المسؤولين العراقيين يعلم تماماً أن الشارع العراقي كان على صواب عندما انتفض، وأن الفساد قد استشرى في جسد العراق الجريح، ومن المؤكد أن إيران تعلم بذلك أيضاً، لكنها بدورها تحتاج إلى هؤلاء المفسدين لأنهم سبيلها للتغلغل في العراق، وما الهجوم الأخير على السفارة الأمريكية في العراق إلا مؤشر صريح يدل على أن إيران تريد أن تفرغ الولايات المتحدة شحنة غضبها ضد الشارع العراقي بدلاً من أن تفرغه ضد الشارع الإيراني، وفي سبيل ذلك لا بأس من التضحية برؤوس بعض الساسة العراقيين، وهو ما عبر عنه الرئيس ترامب فعلاً حين أعرب عن غضبه من الحكومة العراقية حينما صرح بحدة بأنه كان يتوقع منها اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية سفارة بلده في العراق.
لا يساورنا جميعاً أدنى شك في أن الأمة العراقية أمة عظيمة، تاريخها عريق طالما تفاخر به العالم الإسلامي، فبغداد كانت عاصمة الخلافة العباسية التي استمرت لقرون، ونحن على ثقة من أن العراق قادر على تجاوز محنته بأيدي أبنائه، فلا يوجد رئيس جاثم على صدره ولا نظام يكبل أطرافه، ولكن تنقصه الكثير من المقومات التي يتعين عليه اكتسابها ليتمكن من بناء وطنه بنفسه، لقد أصبح العراق الآن حراً من صدام، ولكن لا يزال يتعين عليه المضي قدماً في ترسيخ تجربته الجديدة رغم الكثير من نواقصها وعيوبها، ومن المؤكد أن الاستقرار لن يتحقق إلا بالتحرر من نفوذ الجار الشرقي ثقيل الظل، والذي يمثل العقبة الثانية (بعد صدام) التي تعترض طريق العراقيين، ويتعين عليهم إزاحتها بكل جهد وصبر ومثابرة ليعود لهم وطنهم حراً مستقلاً مستوعباً جميع أطياف الشعب كما يفترض أن يكون.